في أوقاتنا هذه- أوقات الْمُهِمَّاتِ والْمُلِمَّاتِ حيث تتعرض الأمة لخطر التخريب والتغريب والعلمانية من جهة ومُهِمَّةٌ رفع مُخَلَّفات الفرعون البائد من جهة أخرى- يكون الاجتماع على المصالح الضرورية والمشتركة.
محاربة أَسباب الْفُرْقَةِ والأخذ بأصول الإِتحاد والاجتماع من أهم أسباب التمكين، فإِذا كانت الْفُرْقَة هي طريق الانحطاط فإنَّ الوحدة هي سبيل الارتقاء، لذا كان مَقْصِد الاجتماع والائتلاف ونبذ التفرق والاختلاف من أجَل وأعظم مقاصد الشريعة، ولكثرة ما ورد فيه من نصوص منقولة وأدلة معقولة لم يختلف علماء الْمِلَّةِ- قَدِيمًا وحَدِيثًا- حول اعتباره مَقْصِدَا شرعيا مَقْطُوعًا بِهِ، بل واعتباره مِنْ أَهَمِّ مقاصد الشريعة على الإِطلاق، وأَنَّ السَّعْيَ لتحقيقه من أَعْظَم الطاعات وأجل الْقُرُبَاتِ، نلحظُ أهميته بجلاء في شعائرِ الدين الظاهرةِ والباطنة، فلِحِكْمَةٍ بالغة شرع الله لنا قراءة سورة الفاتحة مِنْ بين سور القرآن لنقرأها في الصلاة، وليس فيها دعاء واحد بصيغة الْمُفْرَد بل جميعها بصيغة الجماعة، ومَنَعَتْ الشريعة إقامة جماعة ثانية في المسجد- كما نَهَتْ عن صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ- إِنْ قُصِدَ بذلك المخالفة والتميز عن بقية المسلمين، كما نَهَى النَّبِيُّ الكريم عن قراءة القرآن إِذا كانت ستؤدي إِلى التنازع والاختلاف برغم ما ورد في فضلها من نصوص، وفى مجال المعاملات أَمَرَت الشريعة بتوثيق العقود خوفا من الجحود كما منعت كل معاملة تُوقِعُ بين الناس العداوة والبغضاء، بل وَصَلَ أمر تعظيم هذا الْمَقْصِدَ إِلى درجة أَنَّ رسولنا- وهو أفضل الخلق- نهى عن القطع بأفضليته إِذا كان سيؤدى إِلى الاختلاف والتنازع مع غير المسلم، فقال: «لا تُفَضِّلُوني على الأنبياء»، مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ هذا الْمَقْصِدَ ليس مقصورا على المسلمين وحدهم، بل يشمل غيرهم مِمَّنْ لم ينابذوا المسلمين العداء أو يعينوا أَحَدًا عليهم، فدِينُنَا لم ينزل لتأجيج الصراع بين بَنِي البشر ولكن لضبط العلاقة وتنظيمها.
ومن علامات الفقه ومقتضيات الرَّبَّانِيَّةِ المشار إليها في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أَنْ لا يذكر الإِنسان النصوص التي تشير إلى تَفَرُّقِ الْأُمَّةِ أمام من يسيئون فَهْمها حَتَّى لا تُتَّخَذ شِعَارًا تتَفْرق به الْقُلُوبِ وَتَشَتت به الجهود، فالرَّبَّانِيُّ هو الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ، وَالْمُرَادُ بِصِغَارِ الْعلم مَا وضح من مسَائِله وبكباره ما دَقَّ مِنْهَا، وعليه- إِنْ ذَكَرَها- أَنْ يزيل عنها اللَّبْسَ ويُضَمَّ إِلَيْها بقية إِخوانها من النصوص الأخرى التي تحث على الاجتماع والائتلاف حتى تظهر لوحة العلاقات مع الآخر جميلة دون تناقض أو تضارب أو تشويه، تتناسب مع رسالة الإسلام لأهل الأرض، كما أَنَّ الإِخْبَار بأَنَّ التفرق سيقع في الْأُمَّةِ لا يعنى التسليم للأمر الذي سيقع، وإِنما يعنى الأخذ بالأسباب المشروعة لدفعه.
فإِنْ قيل مع مَنْ وعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يكون الاجتماع ؟ فالجواب: في أوقاتنا هذه- أوقات الْمُهِمَّاتِ والْمُلِمَّاتِ حيث تتعرض الأمة لخطر التخريب والتغريب والعلمانية من جهة ومُهِمَّةٌ رفع مُخَلَّفات الفرعون البائد من جهة أخرى- يكون الاجتماع على المصالح الضرورية والمشتركة، مع كل من له سَعْيٌ جَادٌّ في المحافظة على استقرار الوطن وأَمْنِهِ والدفاع عنه، حتى وإِنْ كان معارضا، طالما أَنَّ معارضته تدفع في اتجاه البناء لا العرقلة، لاسيما وأَنَّ المطلوب هو وحدة الصف لا وحدة الرأي، وحدة القلوب لا وحدة العقول، وحدة القلوب تعنى سلامة الصدر وحسن القصد وعمق الانتماء، أما اختلاف العقول فيهدف إلى التلاقح والإبداع والتنوع في الاجتهاد، وعلينا أَلَّا ننسى أَنَّ موسى الكليم طلب من ربه أَنْ يؤازره بأخيه هارون ليكون عونا له في موجهة طغيان فرعون واستبداده فقال الله له: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}.
ما أحوجنا إلى تفعيل هدا الْمَقْصِد في مرحلتنا هذه- مرحلة البناء والتكوين- حرصا على وحدة المجتمع، وحشدا لجميع طاقات الأمة في خندق المواجهة مع الحاقدين الكارهين الذين تبدوا البغضاء من أفواههم وأقلامهم وأفلامهم صباح مساء، وما تخفى صدورهم أكبر، لا يجمعهم إلا بُغْضُ المشروع الإسلامي وحَمَلَته، ولا يؤلف بينهم إلا الرغبة المشتركة في قهره وإِفشاله، واستئصال كل بادرة للخير تنبت على أرضه وتحت سمائه، ولا يخفى أنهم قد راهنوا على تشرذمنا وتصدع صفوفنا، فلما رأوا مِنَّا بعض الحكمة والتعقل رجعوا إِلى أنفسهم فغيروا اللعبة وأعادوا الْكَرَّةَ مُكَابَرَة منهم واستعلاء.
وحتى لا يكون الطرح نظريا مَحْضًا، ولِيَعْلَمَ كل واحدا منا مَوْقِعَه ودَوْرَه، أقترح بعض الصورة العملية في النقاط التالية، وقد قصدت أَنْ تكون مهاما ذاتية في وسع كل شخص مِنَّا أن يقوم بها:
- تعظيم مقصد تأليف القلوب واجتماعها على مصالح الدين والدنيا في نفوس الناس، وجَمْعُ كلمتهم تجاه هموم الوطن وقضاياه الكبرى بكل ما تناله اليد من الأسباب ووسائل البلاغ، وهذا السعي ليس سعيا في مُحَال ولا مراغمة للأقدار، بل هو سعي في واجب شرعي ومُمْكِنٍ عقلي.
- إتقان العمل والتَّفَنُّنُ في أداء الواجب قبل المطالبة بالحق مع تقدير موقف الحكومة، فالوطن بأكمله مخطوف منذ زمن بعيد، فهل تصلح شهور خراب عقود؟
- أَنْ نعتقد أَنَّ استقامتنا الشخصية هي الْهَدِيَّةُ الأولى التي نقدمها للوطن والْهَدِيَّةُ الثانية هي حَلُّ مشكلاتنا الشخصية دون مساعدة من أحد.
- المشاركة في العمل الخيري والتطوعي، خاصة التكافل الاجتماعي وإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وألَّا ننزع يَدَنا من عمل نافع، بل نحرص على أَنْ نضرب بسهم في كل عمل إيجابي يضيف نقطة إلى رصيد النجاح، وفارق كبير بين حُبُّ الْخَيْرِ وبين فِعْلِهِ.
- هضم النفس وعدم التشبث بالرأي، وإدارة الخلاف مع الصديق والعدو بالحوار والشورى- خاصة في القضايا العملية التي تحتاج في تنفيدها لجهد مُوَحَد- واستعمال الخلق الحسن وتَحَرَّى الطيب من القول وإشاعة روح التغافر والتسامح.
- زرع التفاؤل- في النفس وبين الناس- بِغَدٍ أفضل تحت ظِلِّ حاكم عادل مُكَلَّفٍ بنهضة شعب وتبليغ رسالة.
- سَدُّ الباب أمام كل من يحاول تأليب الناس وزعزعة الاستقرار، مع عدم الخلط بين النقد الهادف الْبَنَّاءِ- والذي يجب أن تَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَتنا- وبين الفوضى والتخريب.
- وأَخِيرًا: لا يوجد مجتمع أقوى من مجموع أفراده، وفي الحكمة: ليس الْمُهِمُّ السرعة التي تسير بها لَكِنَّ الْمُهِم أَنْ تكون على الطريق الصحيح.
اللهم اجمع كلمتنا على الحق واهْدِ قُلُوبَنَا وأَزِلْ فُرْقَتنا.
الكاتب: أحمد عبد المجيد مكي.
المصدر: موقع رؤى فكرية.